لست من الذين فرّقوا دينهم
حامد المهيري
«إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون» (الأنعام 159– 160). هاتان الآيتان كانتا صريحتين واضحتين مع مشركي العرب حين أعرضوا عن دعوة الله ورسوله لإصلاح العقيدة والحياة والأخلاق؛ وكشفتا الغطاء عن مقاصدهم، وانتظارهم حلول آجالهم، وقرب قيام الساعة. لقد أوضحتا بصراحة عاقبة التفرّق والتمزّق، فالذين فرقوا دينهم إلى فرق وأحزاب ضالين هم أهل البدع والشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة، وأن القائمين على تفريق هذه الأمة، دعا اللهُ رسولَه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يدعهم وشأنهم ولا يقاتلهم، ومهمته تبليغ الرسالة، وإعلان شعائر الدين الحق، وأفاده أنه بريء منهم وهم براء من الرسول، فالله يتولى أمرهم وحسابهم.ثم تبين الآية الأخيرة أن الجزاء على الأعمال واضح وأمر حتمي والذي جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة والفعلة الطيبة من الطاعات وأداء الفرائض والتزام شرائع الله فإنه سينال جزاءه عشر حسنات أمثالها، وتكون المضاعفة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة بمشيئة الله عز وجل.أما الذي جاء بالسيئة فاقترف منكرا أو ارتكب ذنبا فسينال عقوبة مماثلة لها «لا يظلمون» أي لا ينقصون من أعمالهم شيئا. ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المروي عن أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال فيما يرويه عن ربه عز وجل «إن ربكم عز وجل رحيم، من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى أضعاف كثيرة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة، أو يمحوها الله عز وجل ولا يهلك على الله إلا هالك». والملائكة هم الموكلون بكتابة الحسنات والسيئات بأمر الله لهم. لا شك أن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه «وكانوا شيعا» أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم ممن هم فيه، فقوله تعالى «شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» (الشورى 13).وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتمسك بشريعة الرسول الخاتم، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء؛ والرسل براء منها كما قال تعالى «لست منهم في شيء» وقوله تعالى «إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون» كقوله تعالى «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد» (الحج 17).ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فذكر سبحانه الآية «من جاء بالحسنة» إلى آخرها وهي مفصلة لما أجمل في الآية الآتية «من جاء بالحسنة فله خير منها» (القصص 84) ووردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل: من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إليّ شبرا اقتربت إليه ذراعا، ومن اقترب إليّ ذراعا اقتربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» رواه مسلم.وحسب الإمام أحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الناس أربعة والأعمال ستة: فالناس موسع له في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة؛ والأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف، فالموجبتان: من مات مسلما مؤمنا لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة؛ ومن مات كافرا وجبت له النار؛ ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله عز وجل كانت بسبعمائة ضعف» رواه الترمذي والنسائي.وروي عن حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها بلَغْو فهو حظه منها، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام» وذلك لأن الله تعالى قال «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها».بعد كل هذا لم يبق لي إلا أن أقول: متى سيتطهّر المغضوب عليهم والضالون، من انحرافاتهم المادية والمعنوية ليسلم أهل الصراط المستقيم من أذاهم وضررهم؟ ومتى سيستيقظ أهل الملل والنحل والأهواء والضلالات من بدعهم وشبهاتهم التي مزقت الأمة وفرّقت بين البشر وارتدت وأشاعت الفتن بين الناس كافة وزاغت بسببها المصطلحات عن أصلها فأصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا عندهم كما قال تعالى «المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف» (التوبة آية 67)؟.
No comments:
Post a Comment