القـرآن .. والعـولمة
سلمان بن فهد العودة
القرآن والصيام ميزتان لشهر رمضان؛ ولذا سمي شهر الصيام والقيام.
وأول ما نزل القرآن فيه؛ ولذا كان جبريل يدارس النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ مانـزل من القرآن ويعارضه كل سنة مرة، حتى كان العام الذي توفي فيه فدارسه القرآن كله مرتين لمزيد من ضبطه وتحديد محكمه ومنسوخه، وكان هذا إيذانا بقرب أجله عليه السلام.
واليوم وعبر التاريخ يقبل المسلمون على قراءة القرآن وختمه فرديا أو مع الإمام في صلاة التراويح، ولا غرو فمن قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات.
بيد أني أزعم أن ثمة ما يقال هنا؛ فقد تربينا على رعاية المقدار أكثر مما تربينا على رعاية الصفة.
فنحن نتساءل: كم قرأت ؟
وفي كم ختمت ؟
ونسمع من الواعظ دوما أن فلانا ختم في يوم، وآخر في يومين وثالث في ركعة!
ويفوت الكثيرين أن يتأملوا ــ بغض النظر عن صدق هذه المرويات وثبوتها ــ كيف كان هدي النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في القراءة؟!
وما معنى أن جبريل يختم معه في الشهر مرة، وفي آخر رمضان صامه ختم معه مرتين فحسب؟!
إن المسألة كانت مدارسة وتأملا وتدبرا، وإنما أنـزل القرآن لهذا (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).
في زمن العولمة وما يصحبها من المتغيرات الهائلة يصبح الركون إلى القرآن معلما أساسا، لأنه يكرس قاعدتين لازمتين.
أولاهما: قاعدة العلميات
وهي الأصول النظرية للاعتقاد التي بها يصير المرء مسلما، وهي مفصل القضية، ومفرق الطريق بين الإيمان والكفر؛ كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته والملائكة والكتاب والنبيين والبعث واليوم الآخر ولقاء الله.
الثانية: قاعدة العمليات
وهي الأصول العملية الناتجة عن القاعدة الأولى، كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والأولى تضبط عقل الإنسان عن الانفلات والجموح والانفصال عن مداره الصحيح، وإن كانت لا تمنعه من الانطلاق والتفكير والاسترسال وراء كل ما من شأن العقل أن يدركه أو يحاوله.
والثانية تضبط سلوك الإنسان من الجنوح، والضياع، والسقوط في مهاوي الرذيلة والبؤس.
وهذا أهم ما تفتقر إليه حركة الأفراد والمجتمعات اليوم في الأوساط الإسلامية.
ومن لطيف الأمر أن هذه المبادئ شديدة الوضوح في نصوص الكتاب، ولذا سميت (محكمات)، فهي داخلة فيما ذكره ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ من أنه: (شيء تعرفه العرب من لغاتها).
فآيات التعريف بالله تعالى، والرسل، وقصصهم، ووعد الآخرة ووعيدها؛ مما يفهمه عامة الناس دون الحاجة إلى مطالعة الكتب، أو مراجعة العلماء.
وإن كان سؤال أهل الذكر ومراجعة تصنيفهم مما يزيد العلم رسوخا، ويزيل اللبس ويؤلف المختلف، ويرتقي بالإيمان.
وهكذا آيات الأعمال من صلاة، وصدقة، ونحوها، فهي ظاهرة ويزيدها ظهورا جريان العمل عليها عند المسلمين، وتلقيهم لصفاتها، وهيئاتها، وأعدادها جيلا بعد جيل.
فلم يختلف المسلمون قط في المباني الأربعة، من حيث ثبوتها وركنيتها.
ولا اختلفوا في أعداد الصلوات المفروضة، ولا في مقدار الزكاة الأصلي، ولا في صفة الصوم أو الحج، وإنما كان خلافهم في تفصيلات ذلك، مما يقع بحكم الطبيعة البشرية أن يختلف الناس فيه.
إن تدبر هذا القرآن ينجز لنا معلمين عظيمين لا غنى عنهما لمن أراد أن يبقى مسلما، وأن يحقق الريادة في الحياة والحضارة.
المعلم الأول:
ضبط القدر الذي تجتمع الأمة عليه، ولا يسعها التهاون فيه بحال من مسائل العلم والعمل.
وهو الذي يحفظ لها كونها (أمة)، إذ لم تكن أمميتها جغرافية بحتة، أو تاريخية، أو جنسية... بل هذه توابع لكونها ( أمة ملية).
والمعلم الثاني:
فتح منافذ الإبداع، والابتكار، والتفكير العلمي الموضوعي في الكون والإنسان والحياة الدنيا، التي هي محل حركة العقل في الاستكشاف والتسخير، والتي صرنا بإهمالها أمثولة للأمم، وكأننا نعيش عجزا ذاتيا في الإدراك، وكأننا لم نكن يوما من الدهر أساتذة الحضارة وقادتها..
فهل يعود القرآن حاكما لحركتنا العقلية وسيرتنا العملية وبرامجنا التنموية؟
أم سيظل ألفاظا تتلى دون روية ولا إدراك ولا تفهم، كما حكى ربنا عن بني إسرائيل: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون).
قال الكسائي والزجاج: الأماني التلاوة.
والله أعلم.
سلمان بن فهد العودة
القرآن والصيام ميزتان لشهر رمضان؛ ولذا سمي شهر الصيام والقيام.
وأول ما نزل القرآن فيه؛ ولذا كان جبريل يدارس النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ مانـزل من القرآن ويعارضه كل سنة مرة، حتى كان العام الذي توفي فيه فدارسه القرآن كله مرتين لمزيد من ضبطه وتحديد محكمه ومنسوخه، وكان هذا إيذانا بقرب أجله عليه السلام.
واليوم وعبر التاريخ يقبل المسلمون على قراءة القرآن وختمه فرديا أو مع الإمام في صلاة التراويح، ولا غرو فمن قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات.
بيد أني أزعم أن ثمة ما يقال هنا؛ فقد تربينا على رعاية المقدار أكثر مما تربينا على رعاية الصفة.
فنحن نتساءل: كم قرأت ؟
وفي كم ختمت ؟
ونسمع من الواعظ دوما أن فلانا ختم في يوم، وآخر في يومين وثالث في ركعة!
ويفوت الكثيرين أن يتأملوا ــ بغض النظر عن صدق هذه المرويات وثبوتها ــ كيف كان هدي النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ في القراءة؟!
وما معنى أن جبريل يختم معه في الشهر مرة، وفي آخر رمضان صامه ختم معه مرتين فحسب؟!
إن المسألة كانت مدارسة وتأملا وتدبرا، وإنما أنـزل القرآن لهذا (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).
في زمن العولمة وما يصحبها من المتغيرات الهائلة يصبح الركون إلى القرآن معلما أساسا، لأنه يكرس قاعدتين لازمتين.
أولاهما: قاعدة العلميات
وهي الأصول النظرية للاعتقاد التي بها يصير المرء مسلما، وهي مفصل القضية، ومفرق الطريق بين الإيمان والكفر؛ كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته والملائكة والكتاب والنبيين والبعث واليوم الآخر ولقاء الله.
الثانية: قاعدة العمليات
وهي الأصول العملية الناتجة عن القاعدة الأولى، كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والأولى تضبط عقل الإنسان عن الانفلات والجموح والانفصال عن مداره الصحيح، وإن كانت لا تمنعه من الانطلاق والتفكير والاسترسال وراء كل ما من شأن العقل أن يدركه أو يحاوله.
والثانية تضبط سلوك الإنسان من الجنوح، والضياع، والسقوط في مهاوي الرذيلة والبؤس.
وهذا أهم ما تفتقر إليه حركة الأفراد والمجتمعات اليوم في الأوساط الإسلامية.
ومن لطيف الأمر أن هذه المبادئ شديدة الوضوح في نصوص الكتاب، ولذا سميت (محكمات)، فهي داخلة فيما ذكره ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ من أنه: (شيء تعرفه العرب من لغاتها).
فآيات التعريف بالله تعالى، والرسل، وقصصهم، ووعد الآخرة ووعيدها؛ مما يفهمه عامة الناس دون الحاجة إلى مطالعة الكتب، أو مراجعة العلماء.
وإن كان سؤال أهل الذكر ومراجعة تصنيفهم مما يزيد العلم رسوخا، ويزيل اللبس ويؤلف المختلف، ويرتقي بالإيمان.
وهكذا آيات الأعمال من صلاة، وصدقة، ونحوها، فهي ظاهرة ويزيدها ظهورا جريان العمل عليها عند المسلمين، وتلقيهم لصفاتها، وهيئاتها، وأعدادها جيلا بعد جيل.
فلم يختلف المسلمون قط في المباني الأربعة، من حيث ثبوتها وركنيتها.
ولا اختلفوا في أعداد الصلوات المفروضة، ولا في مقدار الزكاة الأصلي، ولا في صفة الصوم أو الحج، وإنما كان خلافهم في تفصيلات ذلك، مما يقع بحكم الطبيعة البشرية أن يختلف الناس فيه.
إن تدبر هذا القرآن ينجز لنا معلمين عظيمين لا غنى عنهما لمن أراد أن يبقى مسلما، وأن يحقق الريادة في الحياة والحضارة.
المعلم الأول:
ضبط القدر الذي تجتمع الأمة عليه، ولا يسعها التهاون فيه بحال من مسائل العلم والعمل.
وهو الذي يحفظ لها كونها (أمة)، إذ لم تكن أمميتها جغرافية بحتة، أو تاريخية، أو جنسية... بل هذه توابع لكونها ( أمة ملية).
والمعلم الثاني:
فتح منافذ الإبداع، والابتكار، والتفكير العلمي الموضوعي في الكون والإنسان والحياة الدنيا، التي هي محل حركة العقل في الاستكشاف والتسخير، والتي صرنا بإهمالها أمثولة للأمم، وكأننا نعيش عجزا ذاتيا في الإدراك، وكأننا لم نكن يوما من الدهر أساتذة الحضارة وقادتها..
فهل يعود القرآن حاكما لحركتنا العقلية وسيرتنا العملية وبرامجنا التنموية؟
أم سيظل ألفاظا تتلى دون روية ولا إدراك ولا تفهم، كما حكى ربنا عن بني إسرائيل: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون).
قال الكسائي والزجاج: الأماني التلاوة.
والله أعلم.
No comments:
Post a Comment