صبراته... لكل منحوتة حكاية
هي مدينة امتازت بجمالها الفاتن، إذ تمازجت فيها روعة المتوسط مع الفسيفساء التي كست أرضها. كل صخرة فيها تحدث عن تاريخ نقش عليها، تمثال الإمبراطور "سبتموز سفروز" الذي يتربع عند المدخل شاهد على حضارته التي قامت على ترابها. إرث تاريخي يتمدد تحت أشعة الشمس الدافئة، وعند المغيب يسدل الستار على كل ذاك الجمال لتظهر أطلالها شامخة تعانق عنان السماء، ولو تساءلنا عمّن تكون؟ فهي مدينة صبراته الأثرية. تبعد مدينة صبراته عن العاصمة طرابلس مسافة "67" كم تقريبا، وتعتبر من أهم المعالم التاريخية الموجودة في ليبيا، حيث يعود إنشائها إلى بداية الألف الأولى قبل الميلاد، وصبراته هي إحدى المدن الثلاث التي أطلق عليها اليونان قديما إسم "تريبولوس" أي إقليم "المدن الثلاث" الذي يشمل أويا "طرابلس الحالية" ولبدة وصبراته، كما أطلق عليه أيضا إسم "ايمبوريا" أي المراكز التجارية.تجدر الإشارة إلى أن هذه المدن كانت من أنشط الموانىء التجارية الليبية الفينقية "البونيقية"، واستمر هذا الازدهار حتى انهيار الحكم القرطاجي وقيام الدولة النوميدية، حيث تمكن الرومان من بسط نفوذهم رغم ما لقوه من مواجهة ومقاومة من قبل الليبيبن النوميديين.أسست الولاية الأفريقية التي شملت أراضي "لامبوريا" في سنة 46 ق.م، وجاء ذلك إثر الحرب الأهلية الرومانية التي امتدت إلى الشمال الأفريقي وانتصار يوليوس قيصر على خصمه بومبي في موقعة "تايسوس".أما أطلال المدينة الحالية نجد أن معظمها يرجع إلى القرنيين الأول والثاني من تأسس الإمبروطورية الرومانية، إذ تم تجديد بناء المعابد البونيقية السابقة والمحيطة بساحة السوق، وإلى ذات الفترة السابقة يعود أيضا حي المساكن على الطريق الرئيسية المؤدية إلى المتحف.كما يوجد طريق رئيسية ثانية تتقاطع مع الأولى مكونة معها زاوية قائمة على سور المدينة البيزنطي، وبعد مدة من الزمن شيدت مساكن الحي التي تمتد بين المسرح والطريق الرئيسة أي من الغرب إلى الشرق.واللافت للانتباه ذاك النسق التربيعي في تقسيمات الشوارع، والذي يتشابه كثيرا مع نظام التخطيط الهيبودامي، وقد أوجد ذلك تطابقا في شكل وتخطيط ورسم المباني والشوارع مع محور تصميم المسرح والمساكن، وبالأخص ما يعود إنشائها إلى القرن الثاني الميلادي، أي خلال فترة حكم كل من انطونيوس بيوس وماركوس اوريليوس "138-180 م".تشير الدراسات إلى أن صبراته في تلك الفترة أي فترة الإمبرطور انطونيوس بيوس، كانت في قمة ازدهارها، وقد آلت أيضا إلى أنها قد أصبحت مستوطنة رومانية وذلك بسريان نظام الحقوق المدنية الرومانية على سكانها.ويرجع المؤرخون إلى أن النشاط الاقتصادي أهم هو أسباب الازدهار في صبراته، أي التجارة وليس الأعمال الزراعية، حيث تعد الأراضي المحيطة بالمنطقة أقل خصوبة من لبدة. وما يؤكد ذلك هو مقر وكلاء تجار صبراته الذي تم العثور عليه في مرفأ "اوستيا" القديم على الساحل القريب من مدينة روما، حيث زينت قائمة المقر بفيفساء "صور الفيل" وبناء على ذلك تم استنتاج أن تجارة صبراته قد اعتمدت في الأساس على تصدير العاج والمنتوجات الإفريقية متخذة من منطقتي فزان وغدامس طريقا لذلك. واستمر ازدهار البلد طوال القرن الثالث الميلادي وحتى عهد الأباطرة السويريين.وقع في منتصف القرن الرابع الميلادي زلزال مما أدى إلى تخلخل في الحياة العامة للمدينة، بالإضافة إلى نشوب عدد من الغزوات التي أنتجت الكثير من السلب والنهب والتخريب من قبل قبائل الاوستوريين.لأن دوام الحال من المحال فقد استهدفت المدينة في فترات لاحقة، خاصة عند مجيء الوندال واجتياحهم لشمال أفريقيا.استهدفت صبراته تخريبا واحتلالا وكان ذلك في عام "455"م وقد حدث لها كما حدث لبقية المدن الأفريقية الأخرى، وبقي الحال على ما هو عليه إلى أن احتلها الجيش البيزنطي مرة أخرى سنة "533"م، وفي عهد الإمبرطور جستنيان الذي استمر في الحكم حتى"565"م أعيد تحصين القسم الأقدم من المدينة المجاورة للميناء وذلك بإنشاء وإقامة سور بأبراج، كما شيدت فيها كنيسة غطيت أرضية بهوها بالفسيفساء، وقد نقلت تلك الأرضية إلى طرابلس عام 1931 وهي محفوظة الأن بالمتحف الجماهيري.كما تم خلال نفس الفترة بناء مساكن جديدة بالإضافة إلى تعبيد الطرق التي تتخللها على أنقاض المباني التي تم ذكرها.على المدى القريب أي في عام 1923م بدأت عملية التنقيب والحفر في المدينة، واستمر ذلك حتى عام 1936م، وفي تلك المدة تم الكشف عن نصف مساحة المدينة القديمة تقريبا، بما يشمل المباني العامة وبعض المساكن والطرق، ولعل من أهم ما تم العثور عليه هو مسرح صبراته.استؤنفت عند الخمسينات أعمال الخفر والتنقيب، شاملة القسم الغربي من المدينة أي جنوب السور البيزنطي، وتم الكشف عن حي سكني يرجع تأسيسه إلى الفترة الأولى من تأسيس الإمبروطورية الرومانية.و اخيرا يمكن ان نقول إن بعض كل هذا الوصف والسرد التاريخي لمدينة صبراته انها تحفة من زمن منصرم ستبقى في عقل كل من يزورها.
No comments:
Post a Comment