طابت نفسى للحوار مع تلميذ من تلاميذي، وبلطف، ولين، ورفق، حول قضية جوهرية، عقائدية كانت محور حوار طويل منذ الماضى البعيد، هى قضية الجبر والاختيار، دون أن ينتبه المشاركون فى مختلف هذه الحوارات إلى الآيتين الصريحتين فى القرآن الكريم "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" "الرعد آية 11" وكذلك لقوله تعالى "ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" "الأنفال آية 53" هاتان الآيتان المثبتتان أن الله غير مخلف وعده، والقرآن لم يتغيّر، وإنما المسلمون هم الذين تغيّروا، وبسبب تغيير المسلمين ما بأنفسهم بدّلهم الله من حال إلى حال وهذا هو العدل الالهى المحض.فكيف ينصر الله أمة بدون عمل ويفيض عليها الخيرات التى كان يفيضها على السابقين، وأهل هذا العصر قد قعدوا عن جميع العزائم التى قد كان يقوم بها السابقون؟ فهذا مخالف للحكمة الإلهية والله هو العزيز الحكيم. فما قولكم يا أهل هذا العصر فى عزة دون استحقاق، وفى غلة دون حرث ولا زرع، وفى فوز دون سعى ولا كسب، وفى تأييد دون أدنى سبب يوجب التأييد؟قال لى تلميذي: اختلف المفكرون فى تصور الإنسان هل هو مسيّر أم مخيّر، فأين الحقيقة والواقع؟ فكان جوابى أن الإنسان مسيّر مخيّر معا لكنه يقوم بهذين الدورين فى ميدانين مختلفين، وفى الحالات التى تشتبه فيها الحدود يصعب الفصل فيها على غير الناقد البصير، وهى الحالات التى يلتقى فيها عمل الغريزة وعمل الإرادة، حيث يخيّل للمرء أنه كان معطّل الإرادة أو مسلوبها ولكن المربى الحكيم يستطيع أن يزيل الغشاوة ويساعد العقول على التمييز بين حد حركة الفطرة وسلطانها ونقطة بدء حركة اختيار المرء وقرته وسلطانه ومسؤوليته.الإسلام يعترف بسلطان النزعات الجبلية إلى حد محدود ثم يفسح المجال للهمم والعزائم لتوقف تلك النزعات عند حدّها ولتقاوم الاسترسال معها فيغير ضروراتها، وصدق التنزيل فى وصفه للدعوة الإسلامية "قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" "يوسف آية 108".فقال تلميذي: كيف يتضح هذا؟ قلت له: ولتوضيح هذا نضرب أمثلة، فنبدأ بظاهرة الغضب التى هى ظاهرة مزدوجة عضوية نفسية فى وقت واحد، نلاحظ الانفعال النفسانى عند الغضب تصحبه ثورة دموية تغلى منها مراجل الصدر وترتفع بها حرارة الجسم وقد تتقلّص منها عضلات الوجه، وتتبع ذلك لواحق أخرى كالجهر بالقول والبطش باليد إلى غير ذلك؛ فيتدخل الفرقان السماوى فيفصل هذه الظواهر إلى شطرين: الشطر الأول منها لحكم الجِبِلّة الذى لا سلطان لنا عليه ولا مسؤولية علينا فيه.أما الشطر الثانى فهو شطر اللواحق، فالقرآن ينبّهنا إلى أنه- فيما عدا الحالات المرضية الشاذة التى لا يسيطر عليها العقل ولا الإرادة- يمكن بحكم اختيارنا ومسؤوليتنا أن نبقى نوع الكلام ونوع الحركة خاضعين لشيء من التفكير والإرادة حتى لو فرض أن جهاز النطق وجهاز الحركة يقومان بوظيفتهما إذاك بطريقة آلية اندفاعية بحيث نستطيع توجيه تلك اللواحق من الجهر بالقول والبطش باليد وغيرها الوجهة التى نريدها.ولذلك يطالبنا الشرع، ما دمنا فى حالة الغضب متمتعين بوعينا وإدراكنا، أن نسيطر على حركات ألسنتنا وجوارحنا ويحاسبنا على الأسلوب القولى والفعلى الذى نختاره فى التعبير عن شعورنا. ففى حالة الغضب لا نصادم الغريزة ولا نقاوم حركتها الطبيعية فى بداية اندفاعها ولكن بتوجيه هذه الحركة وتحويل خطّ سيرها على النمط الذى رسمه لنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك عوض أن نسكت ولا نتفوّه بكلمة ننفس بها عن صدورنا، يرشدنا نبيّنا بأن نعبّر عن هذا الانفعال بصيغة "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وإذا اشتد الغضب ينصحنا بقوله "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليقعد، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"؛ وفى رواية أخرى "إذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فإن كان قائما فليجلس ،وإن كان جالسا فلينم، فإن لم يزل ذلك فليتوضأ بالماء البارد أو يغتسل فإن النار لا يطفئها إلا الماء".ولننتقل إلى ظاهرتى الحب والبغض وهما حالتان نفسيتان قد يكون مردّهما إلى مجرد تجاذب الأرواح وتنافرها أو إلى تقارب الأذواق والآراء أو تباعدها أو غيرها من البواعث، فما كان منهما من صنع الله مقلّب القلوب وما يتبعها من الآثار الجبلية التى لا تنكر سواء ما يتعلق منها بالحب أو ما يتعلق بالبغض فلا كلام عليه؛ أما الآثار التى نصنعها نحن فى حكمنا فنحابى من نحب ونغض الطرف عن هفواته ونتحامل على ما نكره ونغطى على حسناته، فهذا هو الظلم الذى نهانا الله عنه بقوله "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" "الأنعام آية 152" وبقوله تعالى "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا" "المائدة آية 8".هكذا حمّلنا الإسلام مسؤولية عملنا وعافانا مما ليس من كسبنا، فلم يكلّفنا اقتلاع عاطفة الرضا ونازعة السخط من أنفسنا، ولا كفّ آثارهما الاختيارية الجائزة؛ وكان خير أسوة حسنة لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يعدل حق العدل داخل عائلته ثم يقول: "اللهم هذا جهدى فيما أملك ولا طاقة لى فيما تملك ولا أملك".ومن الطبائع المستعصية غريزة التطلع التى تدفع الإنسان إلى طلب ما به قوام حياته المادية والمعنوية وليس من الصواب مكافحتها ولا فى الطاقة اقتلاعها، فإن الطبع غلاب كل مغالب، إنما يمكن معالجتها إما بتحويل اتجاهها وذلك باستبدال الهدف الخطير إلى هدف آخر عديم الخطر ينسى الهدف الأول، وإما بوقف آثارها، هكذا علّمنا القرآن فى حالة إلحاح رغباتنا الجامحة فطورا يأذن لنا أن نشبع رغبتنا بأسلوب آخر نتجنب فيه الحرام والخبيث وهو علاج الجمهور والعامة، وطورا يصرف همتنا عن محقرات الأمور وسفاسفها ويوجهها نحو معالى الأمور وأشرافها وهذه هى رتبة الصفوة والخاصة.وفى كل الحالات لا يأمرنا الإسلام بترك التشهى والتمنى ولكنه يرسم لنا أهداف هذا التمني، فلنستمع له حين يقول "ولا تتمنوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض" "النساء آية 32" ثم يقول "واسألوا الله من فضله" "النساء آية 32" وهذا نفسه هو الأدب الذى أدب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه.فتدخل تلميذى وقال: ماذا قال الله تعالى؟ أجبته: قال الله تعالى "ولا تمدّنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى" "طه آية 131" وما أجمل الوصية الذهبية التى يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا وصابرا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا: من نظر فى دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر فى دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله به عليه كتبه الله شاكرا وصابرا، ومن نظر فى دينه إلى من هو دونه ونظر فى دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منها لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا" هذه هى سياسة تحويل الاتجاه.أما سياسة وقف السير، فإنها تتبع فى ظروف خاصة واستثنائية، ليس المطلوب إسكات صوت رغباتنا وحملها قسرا على الجمود والخمود، وإنما ندع جهاز الغريزة يدور حول نفسه ولا نقدم له المادة التى يطلبها. هذا ما رسمته سياسة شريعة الصوم، فطاما لنا عن المشتهيات إطلاقا فى أوقات معلومة، وتلك هى سياسة قمع الهوى التى يقول فيها القرآن "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هى المأوى" "النازعات آيتان 40-41".فالتمس منى تلميذى مزيد الاستفادة، فقلت له على أساس أن نتعاون معا على البحث والتنقيب والتجريب لا فرق بيننا إلا بالتقوى فى الاجتهاد؛ وكان ذلك كذلك، والله الموفق لكل من يسير على الدرب بهدى من الله وبإخلاص وأمانة. هذا جهدى فيما أملك ولا طاقة لى فيما يملك الله خالقى ولا أملكه.
No comments:
Post a Comment