من أمن الزمان خانه
حامد المهيري
"إن تلتمس رضاء جميع الناس تلتمس ما لا يدرك وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟"
إنها قاعدة نلمسها ونعيش مضمونها أفادنا بها عبد الله بن المقفع. الزمن في حياة الإنسان له وزنه وحسابه، فالساعات الطويلة ليست في حقيقتها سوى دقائق وثوان، وضياع الثواني هو في حقيقته ضياع لتلك الساعات، التي ينقضي بمرورها عمر الإنسان، وينتهي بها كفاحه من أجل الحياة والآخرة.
والواقع أن الثروة التي يجمعها أي إنسان مكافح ليست سوى كمية من الزمن تحوّلت إلى ذهب، وكان من الممكن أن تتحوّل إلى دخان ينبعث من نارجيلة، أو تتحوّل إلى شخير ينطلق من صدر نائم خامل، أو شهوة خاطفة تمضي وتخلّف لصاحبها حسرة العمر على الضياع والغفلة وعذاب الضمير، وحساب الآخرة.
كم من الساعات والأيام والسنين تضيع في حياة هذه الأمة على المقاهي، وفي البارات، وفي ضروب اللهو، وفنون الرخاوة والتهتك؛ بل في النوم والكسل والفوضى والثرثرة داخل البيوت والمكاتب، والمصانع، والدواوين!
هذا حال بعض أفراد المسلمين، على حين يسهر أعداؤهم ويكدحون في كل دقيقة، بل في كل ثانية من أجل تحصيل أسباب القوة، ومن أجل فرض سيطرتهم على مصائر العرب والمسلمين.لقد قال الدكتور عبد الصبور شاهين "فنحن نضيع السنين ولا نحس بمرورها، وهم يحاسبون أنفسهم على الثواني مخافة أن تمضي دون إنتاج، لأن الزمن جزء من تقدمهم ونجاحهم كما هو جزء من ضياعنا وفشلنا".
والغريب أن المسلمين مأمورون بالحفاظ على الوقت ومطالبون بالعمل على حساب المستقبل، فالله أمرهم بالصلاة خمس مرات في أوقات معلومة وشرّع الآذان إعلانا لحلول الوقت وايذانا ببدء تكليف جديد متجدد دائما، وحذّر من الغفلة عن إقام الصلاة ووعد الطائعين بثوابه إن حافظوا عليها،
ومن آداب الإسلام عدم ضياع الوقت في لغو الحديث، والحرص على العمل الجاد المثمر "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" "القصص 55"
ومن دقة قياس الزمن في فريضة الصوم قال تعالى "وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"
"البقرة 187"
...يقول الإمام الشافعي عن تقلب الزمان والناس:"الدهر يومان ذا أمن وذا خـــطروالعيش عيشان ذا صفو وذا كـــدرأأقول للذي
بصروف الدهر عــيّرنيهل عاند الدهر إلا من له قــــدر؟أما ترى البحر تعلو فــوقه جـيف وتستقر بأعلى قــعره الــدرر...لا تأمنن إلى الدنــيا وزينــتهافعند صفو الليالي يحــدث الكدر".
ويقول الإمام ابن عرفة: "يرفــع الدهر أناسا بعد أن كانوا سفالهمن له في الغيب شيء لم يمت حتى يناله".ومن تقلب الزمان لما غضب السلطان على الوزير "مقلة" وأمر بقطع يده لما بلغه أنه زوّر عنه كتابا إلى أعدائه وعزله، لم يأت إليه أحد ممّن كان يصحبه، ولا توجّع له، ثم إن السلطان تبيّن له في بقية يومه أنه بريء مما نسب إليه فخلع عليه وردّ إليه وظائفه فأنشد قائلا:"تحالف الناس والزمــان فحيث كان الزمان كانـواعاداني الدهر نصف يــوم فانكشف الناس لي وبانوا
وقد قال ابن خلدون "من أمن الزمان خانه" ومن الحكم في التراث "دوام الحال من المحال".. ومن كلام علي بن أبي طالب "الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك" وقد قيل "إن خوض المرء فيما لا يعنيه، وفراره من الحق من أسباب عثاره".فالزمن هو الأستاذ الأكبر والمعلم الأول الذي يعلّم الأفراد والشعوب أن العاقبة للمتقين والخسران للظالمين، فالتعلم من معترك الحياة أجدى نفعا؛ ولأهمية الزمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" أي الله خالق الدهر.
لقد أقسم الله بالعصر وهو الزمن "والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" "العصر 1- 3" والزمان مملوء بالحوادث، والوقائع، والعظات، والعبر، أذلّ أمما كانت عزيزة، ورفع أخرى كانت وضيعة، أعز العادلين وأذل الظالمين المفسدين. نعم هذا القسم أكد أن كل إنسان في هذه الحياة هو خاسر إلا الذين تجمعت فيهم هذه الأوصاف الأربعة: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فالايمان بالله وتخصيصه بالعبادة واجب، إذ كل شيء خاضع له ومشيئته نافذة، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب السماوية. والعمل الصالح كل ما يصلح نفسك في صحتها وخلقها وعقلها وما يصلح غيرك، من ذلك الصلاة مصلحة للنفس، والزكاة مصلحة للضعفاء، والصيام مجلبة للصحة، والحج توثيق لعرى المسلمين وغيرها. والتواصي بالحق فالحق كلمة قامت بها السماوات والأرض، فالله حق، والقرآن حق واتباع الرسول حق، وكل عمل طيب حق، والحق يحمي الضعيف والبريء ويردع الظالم والمجرم. والتواصي بالصبر، فالصبر عدّة الشدائد ومذيب المصائب، والبلايا مربية للنفوس ومهذبة الشعوب؛ والإنسان مخيّر: إما أن يختار تجارة رابحة ربحا غير محدود وينجح، وإما تجارة خاسرة مفلسة أمام محكمة العدل الإلهي.
No comments:
Post a Comment