Monday, April 13, 2009

Islah



الصلح سيد الأحكام
حامد المهيري


من نقائص مسلمي هذا العصر أنهم لم يستفيدوا من حكم القرآن ومواعظه وإرشاداته الدائمة الصلوحية في كل مكان وفي أي زمان، وفي مختلف العصور. أبصروا بقلوبكم معي يا معشر بني آدم وأخص بالذكر منكم المسلمين، ففي أسلوب الإصلاح بين الناس ذكر لنا القرآن الكريم «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا لله لعلكم ترحمون» (الحجرات آيتان 9-10) والمقصود من «تفيء» ترجع.وأضاف التنزيل الحكيم «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما» (النساء آية 114)، وفي خصوص العلاقات الزوجية قال تعالى «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا» (النساء آية 35). وقد ربط الذكر الحكيم بين الإصلاح وطاعة الله ورسوله بالنسبة للمؤمنين «وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين» (الأنفال آية 1) والمقصود من «ذات بينكم» ما بينكم من الخلاف. فالصلح دائما هو الأفضل في جميع الحالات «وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصّالحا بينهما صلحا والصلح خير» (النساء آية 128).

كذلك في أسلوب الإصلاح بين الناس وردت عديد الأحاديث النبوية، من ذلك روي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا «بلى»، قال «إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح، وأضيف «هي الحالقة، لا أقول تحليق الشعر ولكن تحليق الدين». وفي حديث لجابر رواه مسلم قال «اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ما هذا؟ دعوى أهل الجاهلية»؟ قالوا «لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر» قال «فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره».

إن الإسلام جعل المسلمين كتلة متماسكة، ويدا واحدة، فأي عداء بين اثنين أو خصام في جماعتين، مضر بمصلحة الجميع، ومضعف لروح الدين في نفوس المسلمين، كم من نفوس ضاعت في تقاتل الجماعات الإسلامية، وكمن ممالك تظلها راية الإسلام، التهمتها الدول غير الإسلامية، في وقت خصام المسلمين بين بعضهم بعضا، دون أن يرجعوا إلى كتاب الله تعالى ليكون حكما عادلا، ولا إلى عقولهم ومصلحتهم علنا ليرتدعوا.

قد يحصل سوء تفاهم بين شخصين أو أسرتين أو دولتين، ولا يتدخل المصلحون منذ بدء الخصام، فيعظم الشر ويكبر الخطب وتتفاقم الإنفاقات لدى المحاكم بسبب الخصومات، وقد تروج الشهادات الكاذبة، وتخلق الحيل الباطلة، ويسلك كل سبيل الغلبة والظفر، وإن كان سبيلا للشياطين، وكفرانا لرب العالمين. هناك تقوم المشاجرات، وتشتد المنازعات، ويطغى بعضهم على بعض، بينما كان في الإمكان الإصداع بكلمة طيبة، من نفس موقرة، تقضي على هذا الانشقاق، وتحل محله الوئام والوفاق.قد يحصل هذا الشقاق بين الزوجين، أو الشقيقين، أو الصديقين، أو القريتين، أو الدولتين فلماذا يتفرج صامتا المسلم على أخويه المسلمين، ولا يتدخل بالأسلوب القرآني بينهما، بينما يتدخل غير المسلم، بدافع العلاقة الإنسانية؟ لقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، قال تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» والمقصود بـ«سلامى» يعني كل عضو من الأعضاء.

من خصوصيات ديار الإسلام أن لا يدع المسلمون اثنين يتنازعان، ولا فريقين يختصمان، فعلى أولي الرأي الصائب، وذوي المكانة الموقرة، أن يقربوا بين النفوس المتشاكسة، مما أوتوا من حكمة، وما رزقوا من هيبة، وليراعوا في الإصلاح أن يكونوا حكاما منصفين، وقضاة عادلين «وأقسطوا إن الله يحب المقسطين» وليكن الإخلاص في العمل مالئا النفوس، والرغبة في الوفاق مالكة المشاعر، وأن يكون أسلوب الإصلاح ملائما للواقع بالرفق.فالسعي في الصلح، والتسامح في الحق جالب لرضا الرب، معظم للأجر، فلا تبيعوا يا بني آدم ملكا واسعا بعرض زائل ومال ضائع، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.

ما تقدم أصبح يقينا أن «الصلح سيد الأحكام» كما قيل، أي أن الصلح يفضي إلى الاطمئنان، وإلى النهاية السليمة للجميع، وهي حكمة خالدة جرت مجرى الأمثال وتداولها الناس في كل مكان. ومن حكمة قيس بن عاصم جوابه الحكيم عن السؤال الذي طرح عليه «قيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟» قال «لم أخاصم أحدا إلا تركت للصلح موضعا» فالصلح هو السلم. روى الطبراني عن أبي كاهل «أصلح بين الناس ولو تعني الكذب» وفي حديث حسن رواه مسلم وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة «لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح».فيا أبناء عقيدتي تحلوا بأسلوب عقيدتكم واجعلوا الصلح دوما هو أساس المعاملة بين بعضكم بعضا، واتركوا دائما للصلح مخرجا «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» (الطلاق آية 2) «ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا» (الطلاق آية 4).

No comments:

Post a Comment