Saturday, May 23, 2009

AGAMA, KETAWA DAN SUKA


الدين والضحك والمرح
تاريخ النشر: السبت 23 مايو 2009
موقع القرضاوي/21-4-2009
بقلم العلامة الدكتور القرضاوي
قد وُجّه إليّ منذ سنوات سؤال مهم عن موقف الدين من الضحك والمرح والمزاح. قال السائل:
هل يجوز للمسلم أن يضحك ويمزح، ويفرح ويمرح، وتصدر عنه النكات والطرائف والملح، بالقول أو بالفعل، فيضحك الآخرين؟
إن بعض الناس تكونت لديه فكرة: أن الدين يحرم على الإنسان الضحك والمزاح والتنكيت والمداعبة، ويفرض عليه الجد والصرامة في كل أحواله. ويؤيدون هذا الاعتقاد بأمرين:
الأول: موقف كثير من المتدينين، أو المتحمسين للدين، حيث لا يرى أحدهم إلا مقطب الجبين، عبوس الوجه، متجهمًا عند اللقاء، خشنًا في الكلام، فظًا في المعاملة مع الناس، وخصوصًا غير المتدينين.
والثاني: بعض النصوص، التي قرأوها أو سمعوها من بعض الوعاظ والخطباء، ففهموا منها أن الإسلام لا يرحب بالضحك والفرح والمزاح، مثل حديث "لا تكثر من الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"
[1].
وحديث: "ويل للذي يحدث الحديث ليضحك به القوم، فيكذب، ويل له، ويل له"
[2].!
وحديث وصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بأنه: "كان متواصل الأحزان"
[3].
وقوله تعالى على لسان قوم قارون: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) القصص: 76.
وحسب قراءتي ومعلوماتي عن الإسلام ـ وهي محدودة ـ أعتقد أن هذا ظلم للإسلام الذي جاء بالاعتدال في كل شيء.
فالرجاء توضيح موقف الإسلام في هذه القضية، مؤيدًا بالأدلة الشرعية. نفع الله بكم، وجزاكم خيرًا.
الإنسان حيوان ضاحك:
وقد أجبت السائل بما يلي:
الضحك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
ولهذا قيل: الإنسان حيوان ضاحك، ويصدق القول هنا: أنا أضحك، إذن أنا إنسان.
والإسلام ـ بوصفه دين الفطرة ـ لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والمرح والانبساط، بل هو على العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشّة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
حاجة الإنسان إلى اللهو:
على أن حاجة الإنسان السوي إلى اللهو حاجة فطرية. ونجيب الذين اعترضوا على حل الألعاب المختلفة بأنها لهو، وهو مذموم، بما أجاب الإمام الغزالي عمن قال: إن الغناء لهو ولعب بقوله: (هو كذلك، ولكن الدنيا كلها لهو ولعب ... وجميع المداعبة مع النساء لهو، إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد، وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال، نقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
وأي لهو يزيد على لهو الحبشة والزنوج في لعبهم، فقد ثبت بالنص إباحته. على أني أقول: اللهو مروح للقلب، ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهت عميت، وترويحها إعانة لها على الجد، فالمواظب على التفكر مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة؛ لأن عطلة يوم تساعد على النشاط في سائر الأيام، والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات، ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات، فالعطلة معونة على العمل، اللهو معين على الجد ولا يصبر على الجد المحض، والحق المر، إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام، فاللهو دواء القلب من داء الإعياء، فينبغي أن يكون مباحًا، ولكن لا ينبغي أن يستكثر منه، كما لا يستكثر من الدواء. فإذًا اللهو على هذه النية يصير قربة، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها، بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك، ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال، فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن أحاط بعلم علاج القلوب، ووجوه التلطف بها، وسياقتها إلى الحق، علم قطعًا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه) انتهي كلام الغزالي
[4]، وهو كلام نفيس يعبر عن روح الإسلام الحقة.
ومن الناس من استدل بقوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) لقمان:5 على أن كل لهو حرام.
وهذا غير صحيح، لأن الآية الكريمة لم تذم اللهو في ذاته، وإنما ذمت من يشتري اللهو ليضل عن سبيل الله، ويتخذها هزوا، فالمذموم هنا هو المقصود من وراء اللهو، وليس اللهو ذاته.
[5]
يؤيد هذا أن القرآن قرن اللهو بالتجارة ـ وهي مشروعة قطعا ـ كما جاء في قوله تعالى (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) الجمعة:11.
رسول الله هو الأسوة:
وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ـ برغم همومه الكثيرة والمتنوعة ـ يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وقال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
[6]وقد روي وصفه من بعض أصحابه بأنه كان من أفكه الناس.[7]
وقد رأيناه في بيته صلى الله عليه وسلم يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري[8].
وكما رأينا في تسابقه مع عائشة رضي الله عنها، حيث سبقته مرة، وبعد مدة تسابقا فسبقها، فقال لها: هذه بتلك!
[9] أي (تعادل) بلغة الكرة اليوم! وأذكر أني كنت أدرس لطالباتي في جامعة قطر (السيرة النبوية) وذكرت لهم القصة، وقلت لهم: ماذا تقولون لو رأيتموني مرة أتسابق في العَدْو مع زوجتي؟ ستقولون: جُنَّ الشيخ!
وقد روي أنه وطأ ظهره لسبطيه الحسن والحسين، في طفولتهما ليركبا، ويستمتعا دون تزمت ولا تحرج، وقد دخل عليه أحد الصحابة ورأى هذا المشهد فقال: نعم المركب ركبتما، فقال عليه الصلاة والسلام: "ونعم الفارسان هما"!
[10]
وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع الحسن بن علي برجليه فيقول له:حُزُقَّة تَرَقَّ عين بَقَّة [11] " [12].
وفي رواية عند الطبراني: عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان، وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بكفيه جميعا،حسنا أو حسينا، وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: حُزُقَّة حُزُقَّة ارَقَّ عين بَقَّة، فيرقى الغلام حتى يضع قدمه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم: قال له: افتح فاك، قال: ثم قبله، ثم قال:: اللهم أحبه، فإني أحبه.
[13]
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز"! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا) الواقعة:35-37
[14].
وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: "إنا حاملوك على ولد الناقة" ! فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟ ! -انصرف ذهنه إلى الحوار الصغير- فقال: "وهل تلد الإبل إلا النوق"؟
[15]وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: "ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض" ؟ قالت: والله ما بعينه بياض فقال: "بلى إن بعينه بياضا" فقالت: لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد إلا بعينه بياض"[16] وأراد به البياض المحيط بالحدقة.
وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له: أبو عُمَيْر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم ويقول: "يا أبا عُمَيْر ما فعل النُّغَيْر" ؟
[17]. لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة، فصنعت حريرة ـ دقيق يطبخ بلبن أو دسم ـ وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي ! وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
[18]
وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميمًا قبيحًا، فلما بايعه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء ـ وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب ـ أفلا أنزل لك عن إحداهن فتتزوجها ؟! وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت ؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤالها إياه؛ لأنه كان دميمًا.[19]وكان صلى الله عليه وسلم يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات السائدة مثل: الأعياد والأعراس.
ولما أنكر الصديق أبو بكر رضي الله عنه غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له: "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد"
[20]! وفي بعض الروايات: "إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا "[21].
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: "دونكم يا بني أرفدة"
[22] !
وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا.
كما أتاح لها أن تلعب بالبنات (اللُّعب) مع صويحباتها.
واستنكر يومًا أن تزف فتاة إلى زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: "ما كان معها لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو "
[23]. وفي بعض الروايات: "هلا بعثتم معها من تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم"[24].
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب (الإحياء)
[25] أحاديث غناء الجاريتين، ولعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وتشجيع النبي لهم بقوله: " دونكم يا بني أرفدة ". وقول النبي لعائشة: " تشتهين أن تنظري "؟، ووقوفه معها حتى تمل هي وتسأم، ولعبها بالبنات مع صواحبها، ثم قال: فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين، وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام، وفيها دلالة على أنواع من الرخص:
الأول: اللعب، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب.
والثاني: فعل ذلك في المسجد.
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: " دونكم يا بني أرفدة " وهذا أمر باللعب، والتماس له، فكيف يقدر كونه حراما؟
والرابع: منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإنكار والتعليل والتغيير، وتعليله بأنه يوم عيد، أي وقت سرور، وهذا من أسباب السرور.
والخامس: وقوفه طويلا في مشاهدته ذلك وسماعه، لموافقة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع عنه.
والسادس: قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة ابتداء: " أتشتهين أن تنظري "؟
والسابع: الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين... إلى آخر ما قاله الغزالي في كتاب السماع.
الصحابة على هدي رسول الله:
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم واهتداء بهديه. حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -على ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروى عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟
وقد عرف بعضهم بذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم-، وأقره عليه، واستمر على ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار، وعدوا فاعلها من الفاسقين أو المنحرفين !
الصحابة الفكاهيون (الكوميديون):
من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلى الضحك والمزاح: النعيمان بن عمر الأنصاري، رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة.
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها. ومعنى هذا: أنه من السابقين الأولين من الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، كما ذكرت سورة التوبة
[26].
روى عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب "الفكاهة والمرح" نذكر بعضًا منها:
قال: وكان لا يدخل المدينة طُرفة إلا اشتري منها، ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أو لم تهده لي" ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه
[27].
وأخرج الزبير قصة أخرى من طريق ربيعة بن عثمان قال: دخل أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا
[28] إلى اللحم ؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد ! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فعل هذا"؟ فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتي وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفي تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو فأخرجه فقال له: "ما حملك على ما صنعت"؟ قال: الذين دلوك على يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي[29].
قال الزبير أيضا: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به، الناس، المسجد المسجد، فأخذ نعيمان بن عمرو بيده، وتنحي به، ثم أجلسه في ناحية أخري من المسجد فقال له: بل هنا قال: فصاح به الناس فقال: ويحكم، فمن أتى بي إلى هذا الموضع ؟! قالوا: نعيمان، قال: أما إن لله عليّ إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان قال: نعم، قال: فأخذ بيده حتى أوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت، فقال: دونك هذا نعيمان، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين، فذكر بقية القصة.
[30]
ومن الطرائف أن صحابيًا آخر من أهل الفكاهة والمزاح، استطاع أن يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه غيره من "المقالب" كما في قصة سويبط بن حرملة معه، وكان ممن شهد بدرًا أيضًا، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب"[31] في ترجمة سويبط رضي الله عنه: وكان مزاحًا يفرط في الدعابة، وله قصة ظريفة مع نعيمان وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم، نذكرها لما فيها من الظرف، وحسن الخلق.
وروى عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه في تجارة إلى بصري قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا قد شهدا بدرًا، وكان نعيمان على الزاد، فقال له سويبط، وكان رجلاً مزاحًا، أطعمني فقال: لا حتى يجيء أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أما والله لأغيظنك، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبدًا ؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا على عبدي، قالوا: بل نشتريه منك، قال: فاشتروه منه بعشر قلائص، قال: فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نعيمان: إن هذا يستهزئ بكم، وإني حر، لست بعبد، قالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره سويبط فأتبعهم، فرد عليهم القلائص، وأخذه، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها حولا.
[32]
موقف المتشددين:
ومما لا يخفى: أنه كان في الصحابة رجال تتسم حياتهم بالجد والصرامة، كما رأينا في موقف سيدنا أبي بكر حين أنكر الغناء في بيت عائشة رغم أن اليوم يوم عيد، وقال قولته الشهيرة: أمزمور الشيطان في بيت رسول الله؟
[33]
وكما رأينا في موقف سيدنا عمر، حتى أخذ الحصباء بيده ورمى بها الحبشة وهم يلعبون بحرابهم، حتى زجره النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: دعهم يا عمر.
ولا يزال الناس متفاوتين جد التفاوت في مثل هذه المواقف، والإسلام يسعهم جميعا.
وأفضل المواقف بلا نزاع هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم، الذي وسع هذه الألوان من اللهو، برغم ما يحمل في صدره من هموم الدعوة والأمة.
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذر من سوء عاقبته، ونظر إلى جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخري.
قال بعضهم: المزاح مجلبة للبغضاء، مثلبة للبهاء، مقطعة للإخاء.
وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللكام.
وسئل الحجاج بن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح، وآخره ترح، وهو نقائض السفهاء مثل نقائص الشعراء، والمزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما خلقان لا أرضاهما لصديق
وقيل:
لا تمازح صغيرًا فيجترئ عليك، ولا كبيرًا فيحقد عليك !
ونحوه قول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه يجرّي عليك الطفل والدنس النذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر.
وقيل: المِزاح يُبدي المهانة، ويُذهب المهابة، والغالب فيه واتر، والمغلوب ثائر.
وقيل: احذر فلتات المِزاح، فسقطة الاسترسال لا تقال.
ولكن ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتهم نفسه بالنفاق: "يا حنظلة لو دمتم على الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة"
[34]، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل.
روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متحزقين ولا متماوتين. كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
[35]
والتحزق كما يقول الإمام الخطابي: التجمع وشدة التقبص.
وفي النهاية لابن الأثير: متحزقين: أي منقبضين ومجتمعين.
وسئل ابن سيرين عن الصحابة: هل كانوا يتمازحون ؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر.
[36] وابن عمر هو من هو، في ورعه وجده وتشدده .
وبهذا يكون موقف أولئك النفر من المتدينين أو المتحمسين للدين، وعبوسهم وتجهمهم الذي ذكره الأخ السائل، لا يمثل حقيقة الدين في شيء، ولا يتفق مع هدي الرسول الكريم وأصحابه.
إنما يرجع إلى سوء فهمهم للإسلام، أو لطبيعتهم الشخصية، أو لظروف نشأتهم وتربيتهم.
وعلى كل حال، لا يجهل مسلم أن الإسلام لا يؤخذ من سلوك فرد أو مجموعة من الناس، يخطئون ويصيبون. فالإسلام حجة عليهم، وليسوا هم حجة على الإسلام، إنما يؤخذ الإسلام من القرآن والسنة الثابتة.
تفسير النصوص الموهمة لخلاف ذلك:
وأما النصوص الدينية التي ذكرها السائل، والتي فهم منها من فهم: أن الإسلام يدعو إلى الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتى لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.
فقوله تعالى على لسان قوم قارون له ناصحين: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) القصص: 76 لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، فقد قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) يونس: 58.
وقال صلى الله عليه وسلم: " للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه " متفق عليه.
[37]
بل الفرح المراد هنا ـ كما يدل عليه السياق ـ هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلى نفسه، كما قال قارون عن ماله: (إنما أوتيته على علم عندي) القصص: 78 فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) غافر:75.
وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب، ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد على أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة، وفيهم نزل قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) آل عمران: 188.
ومثل ذلك فرح الذين غرهم علمهم المادي، فوقفوا عنده، ورفضوا ما جاء به الوحي، وفيهم جاء قول الله تعالى: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) غافر: 83.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب"
[38] فالحديث واضح الدلالة على أن المنهي عنه ليس مجرد الضحك، بل كثرته، وكل شيء خرج عن حده انقلب إلى ضده.
وأما وصفه صلى الله عليه وسلم "بأنه متواصل الأحزان
[39]" فالحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة.
ويعارضه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهم والحزن
[40].
على أن ذلك الحديث لو صح لأمكن تأويله أنه كان يمسي ويصبح وهو مشغول بهموم دعوته، وهموم أمته، وما أكثرها، بالإضافة إلى هَمِّ الآخرة وأهوالها.
ولكنه مع هذا لم يضق قلبه الكبير عن المزاح والمداعبة، وإعطاء الفطرة حقها، والناس حقوقهم، وهذه هي الإنسانية الكاملة، والأسوة المثلى.

No comments:

Post a Comment