إن الظن لا يغني من الحق شيئا
حامد المهيري
قال حكيم العرب أكثم بن صيفي «حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، والثقة نكبة» يضرب هذا المثل في الإنسان الذي يحسن الظن في الآخرين فيورط في مشاكلهم التي لا حصر لها. وأضاف قائلا «الحزم سوء الظن بالناس» يضرب هذا المثل في وجوب التعامل بحذر شديد مع بعض الناس، وقد أخذ بعضهم هذا المعنى فقال «إن سوء الظن من حسن الفطن» وفي المثل اللاتيني «سوء الظن يزين الخداع» أي يحمل صاحبه على خداع من يخشى خداعه.
وفي حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإنه أكذب الحديث» وفي القرآن الكريم قال الله تعالى «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم» (الحجرات 12).
ذكر البخاري عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة)» إنه حديث الثقة اليقينية بين الله وعبده الصالح الذي يعبده بإخلاص وصدق.
الله تعالى قال «أنا عند ظن عبدي بي» أي إن ظن أني أقبل أعماله الصالحة، وأثيبه عليها، وأغفر له إن تاب: فله ذلك مني، وإن ظن أني لا أفعل به ذلك، فسيكون له ذلك. ففيه إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء، على جانب الخوف، وقيد بعض أهل التحقيق ذلك بالمحتضر، وأما قبل ذلك فأقوال ثلاثة: أصحها الاعتدال، فينبغي للمرء أن يجتهد بقيام وظائف العبادة، موقنا بأن الله تعالى يقبله، ويغفر له، لأنه وعده بذلك، وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن ذلك، فهو آيس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكّل إلى ظنه.
وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرور. بهذا شرح المفسرون القول وأضيف إلى ذلك الآية القرآنية لبيان سعة رحمة الله «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر 53).
وفي قوله «وأنا معه إذا ذكرني» وهي معية خصوصية، أي معه برحمتي وتوفيقي وهدايتي، ورعايتي وعنايتي، فهي غير المعية المعلومة من قوله تعالى «وهو معكم أينما كنتم» (الحديد 4) فإن معناها بالعلم والإحاطة «فإن ذكرني» بالتنزيه والتقديس سرا (في نفسه) وقلبه وضميره ذكرته بالثواب «في نفسي» أي لم يطلع عليه غيري «وإن ذكرني في ملإ» أي في جماعة جهرا «ذكرته» بالثواب وبالثناء عليه «في ملإ خير منهم» وهم الملأ الأعلى. ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم لاحتمال أن يكون المراد بالملإ الذين هم خير من الذاكرين- الأنبياء والشهداء، فلم ينحصر في ذلك الملائكة.
وقد أشار المفسرون أن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملإ معا، فالجانب الذي معه رب العزة خير من الجانب الذي ليس فيه بلا ارتياب، فالخيرة حصلت بالنسبة للمجموع، وهذا قاله الحافظ بن حجر، وقال إنه سبقه إلى معناه ابن الزملكاني.
والمقصود من الشبر أي مقدرا شبر، ومن الذراع أي بقدر ذراع، ومعنى «هرولة» أي إسراعا. يعني من تقرب إلي بطاعة قليلة، جازيته بمثوبة كثيرة، وكلما زاد في الطاعة، زدته في المثوبة، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني، فإتياني بالثواب له على السرعة.
وتطلق النفس على الذات، وفي شرح الإمام النووي لصحيح مسلم قوله عز وجل «أنا عند ظن عبدي بي» قال القاضي: قيل معناه: عند ظنه بالغفران له، إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية. وقيل المراد به الرجاء وتأميل العفو، وهذا أصح.
قال المازري في خصوص النفس: النفس تطلق في اللغة على معان: منها الدم، ونفس الحيوان، وهما مستحيلان في حق الله. ومنها الذات، والله تعالى ذات حقيقية، وهو المراد بقوله «في نفسي» ومنها الغيب وهو أحد الأقوال في قوله تعالى «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب» (المائدة 116) أي تعلم ما في غيبي، ولا أعلم ما في غيبك، فيجوز أن يكون أيضا مرادا في الحديث، أي إذا ذكر الله خاليا، أثابه الله وجازاه عما عمل بما لم يطلع عليه أحد من الخلق..
«ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن» لكن من المعقول «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن». قيل الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم.
إن المنافقين «يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم» (الفتح 11) هؤلاء وقعت مخاطبتهم بقول الله تعالى «زين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا» (الفتح 12) هؤلاء «يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية» (آل عمران 154) «وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا» (يونس 36).
لقد أنذر الله تعالى بالوعيد «المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء» (الفتح 6) وحذر من عبادة غير الله «إن يتبعوا إلا الظن وما تهوى الأنفس» (النجم 23) ومن حديث «وإذا ظننت فلا تحقق».
ومما قدمت من دلالات عن الظن بإيجابياته وسلبياته يتضح أن مقولة عمر بن الخطاب «احتجزوا من الناس بسوء الظن» أي لا تثقوا بكل أحد فإنه أسلم لكم، لكن ثقوا بالله بإخلاص وصدق. ومن توجيهات خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام محذرا «ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد، والظن، والطِّيَرة، لأنبئكم بالمخرج منها، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبع، وإن تطيرت فامض».
فيا أيها الإنسان إن كنت صالحا في أعمالك، مصلحا لغيرك، مؤمنا بالله إيمان الموقنين به، واثقا من رحمته وثوق المتقين، ذاكرا الله في كل لحظة، في عملك، وفي تنقلاتك، وفي كل سلوك من سلوكياتك، لا تقنط من رحمته تعالى وثوابه. أما إن اخترت العزوف عن عبادة الله بكل ما أمرك به، فما عليك إلا أن تتحمل عاقبة لامبالاتك ورفضك لكل ما هو صواب، واستسلامك، واستذلالك، لكل ما تشتهيه وتستهويه وتأمرك به نفسك الأمارة بالسوء، فتضعف وتنكر حقوق الله عليك. وطبعا سيكون جزاؤك عقاب الله على انحرافاتك.
حامد المهيري
قال حكيم العرب أكثم بن صيفي «حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، والثقة نكبة» يضرب هذا المثل في الإنسان الذي يحسن الظن في الآخرين فيورط في مشاكلهم التي لا حصر لها. وأضاف قائلا «الحزم سوء الظن بالناس» يضرب هذا المثل في وجوب التعامل بحذر شديد مع بعض الناس، وقد أخذ بعضهم هذا المعنى فقال «إن سوء الظن من حسن الفطن» وفي المثل اللاتيني «سوء الظن يزين الخداع» أي يحمل صاحبه على خداع من يخشى خداعه.
وفي حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإنه أكذب الحديث» وفي القرآن الكريم قال الله تعالى «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم» (الحجرات 12).
ذكر البخاري عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة)» إنه حديث الثقة اليقينية بين الله وعبده الصالح الذي يعبده بإخلاص وصدق.
الله تعالى قال «أنا عند ظن عبدي بي» أي إن ظن أني أقبل أعماله الصالحة، وأثيبه عليها، وأغفر له إن تاب: فله ذلك مني، وإن ظن أني لا أفعل به ذلك، فسيكون له ذلك. ففيه إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء، على جانب الخوف، وقيد بعض أهل التحقيق ذلك بالمحتضر، وأما قبل ذلك فأقوال ثلاثة: أصحها الاعتدال، فينبغي للمرء أن يجتهد بقيام وظائف العبادة، موقنا بأن الله تعالى يقبله، ويغفر له، لأنه وعده بذلك، وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن ذلك، فهو آيس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكّل إلى ظنه.
وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغرور. بهذا شرح المفسرون القول وأضيف إلى ذلك الآية القرآنية لبيان سعة رحمة الله «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر 53).
وفي قوله «وأنا معه إذا ذكرني» وهي معية خصوصية، أي معه برحمتي وتوفيقي وهدايتي، ورعايتي وعنايتي، فهي غير المعية المعلومة من قوله تعالى «وهو معكم أينما كنتم» (الحديد 4) فإن معناها بالعلم والإحاطة «فإن ذكرني» بالتنزيه والتقديس سرا (في نفسه) وقلبه وضميره ذكرته بالثواب «في نفسي» أي لم يطلع عليه غيري «وإن ذكرني في ملإ» أي في جماعة جهرا «ذكرته» بالثواب وبالثناء عليه «في ملإ خير منهم» وهم الملأ الأعلى. ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم لاحتمال أن يكون المراد بالملإ الذين هم خير من الذاكرين- الأنبياء والشهداء، فلم ينحصر في ذلك الملائكة.
وقد أشار المفسرون أن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملإ معا، فالجانب الذي معه رب العزة خير من الجانب الذي ليس فيه بلا ارتياب، فالخيرة حصلت بالنسبة للمجموع، وهذا قاله الحافظ بن حجر، وقال إنه سبقه إلى معناه ابن الزملكاني.
والمقصود من الشبر أي مقدرا شبر، ومن الذراع أي بقدر ذراع، ومعنى «هرولة» أي إسراعا. يعني من تقرب إلي بطاعة قليلة، جازيته بمثوبة كثيرة، وكلما زاد في الطاعة، زدته في المثوبة، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني، فإتياني بالثواب له على السرعة.
وتطلق النفس على الذات، وفي شرح الإمام النووي لصحيح مسلم قوله عز وجل «أنا عند ظن عبدي بي» قال القاضي: قيل معناه: عند ظنه بالغفران له، إذا استغفر، والقبول إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية. وقيل المراد به الرجاء وتأميل العفو، وهذا أصح.
قال المازري في خصوص النفس: النفس تطلق في اللغة على معان: منها الدم، ونفس الحيوان، وهما مستحيلان في حق الله. ومنها الذات، والله تعالى ذات حقيقية، وهو المراد بقوله «في نفسي» ومنها الغيب وهو أحد الأقوال في قوله تعالى «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب» (المائدة 116) أي تعلم ما في غيبي، ولا أعلم ما في غيبك، فيجوز أن يكون أيضا مرادا في الحديث، أي إذا ذكر الله خاليا، أثابه الله وجازاه عما عمل بما لم يطلع عليه أحد من الخلق..
«ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن» لكن من المعقول «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن». قيل الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان، إنما هو يقين تدبر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم.
إن المنافقين «يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم» (الفتح 11) هؤلاء وقعت مخاطبتهم بقول الله تعالى «زين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا» (الفتح 12) هؤلاء «يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية» (آل عمران 154) «وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا» (يونس 36).
لقد أنذر الله تعالى بالوعيد «المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء» (الفتح 6) وحذر من عبادة غير الله «إن يتبعوا إلا الظن وما تهوى الأنفس» (النجم 23) ومن حديث «وإذا ظننت فلا تحقق».
ومما قدمت من دلالات عن الظن بإيجابياته وسلبياته يتضح أن مقولة عمر بن الخطاب «احتجزوا من الناس بسوء الظن» أي لا تثقوا بكل أحد فإنه أسلم لكم، لكن ثقوا بالله بإخلاص وصدق. ومن توجيهات خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام محذرا «ثلاث لم تسلم منها هذه الأمة: الحسد، والظن، والطِّيَرة، لأنبئكم بالمخرج منها، إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبع، وإن تطيرت فامض».
فيا أيها الإنسان إن كنت صالحا في أعمالك، مصلحا لغيرك، مؤمنا بالله إيمان الموقنين به، واثقا من رحمته وثوق المتقين، ذاكرا الله في كل لحظة، في عملك، وفي تنقلاتك، وفي كل سلوك من سلوكياتك، لا تقنط من رحمته تعالى وثوابه. أما إن اخترت العزوف عن عبادة الله بكل ما أمرك به، فما عليك إلا أن تتحمل عاقبة لامبالاتك ورفضك لكل ما هو صواب، واستسلامك، واستذلالك، لكل ما تشتهيه وتستهويه وتأمرك به نفسك الأمارة بالسوء، فتضعف وتنكر حقوق الله عليك. وطبعا سيكون جزاؤك عقاب الله على انحرافاتك.
No comments:
Post a Comment