من أحداث ليلة القدر:- نزول القرآن
للزمان قيمة ذات شأن من خلال ما يحدث فيه من أحداث، ومنه زمن ليلة القدر، تلك التي أمر فيها الله ملائكته بنقل القرآن من اللوح المحفوظ جملة إلى بيت العز، في السماء الدنيا، وفيها ابتدئ نزول القرآن، والقدر الذي عرّفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل، قال تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة» (الدخان آية 3-مكية)، أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى، مما أعطاها من البركة إذ جعلها مظهرا لما سبق به علمه، ومبدأ الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فكانت ظرفا لاتصال السماء بالأرض، والإنسان بالله، وجبريل أمين الوحي بمحمد عليه الصلاة والسلام أمين الرسالة.ابتدئ نزول القرآن في شهر رمضان، قال الله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان» (البقرة آية 185 مدنية). نزل على ثلاث مراحل، الأولى في اللوح المحفوظ، والثانية إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والثالثة تفريقه منجما بحسب الحوادث. لئن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة فإن هذه المراحل من عالم الغيب لا يعلم سرها إلا الله.شاءت الحكمة الإلهية أن يظل الوحي متجاوبا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلمه كل يوم شيئا جديدا، ويرشده، ويهديه، ويثبته، ويزيده اطمئنانا، ومتجاوبا مع الصحابة يربيهم، ويصلح عاداتهم، ويجيبهم عن وقائعهم، ولا يفاجئهم بتعاليمه وتشريعاته، فكان مظهر هذا التجاوب نزوله منجما بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر، وأقل؛ ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول (أنزل القرآن خمسا خمسا إلا سورة الأنعام ومن حفظ خمسا خمسا لم ينسه). وقد صح نزول عشر آيات في قصة الإفك، وفيها يبرئ الله السيدة عائشة رضي الله عنها من الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول سورة المؤمنين جملة، وصح نزول «غير أولي الضرر» (النساء آية 95) وحدها، وهي بعض آية، وكذلك قوله «وإن خفتم عيلة» (التوبة آية 28) إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول الآية.على هذا المنوال ظل القرآن ينزل منجما خلال ثلاثة وعشرين عاما على الأصح تبعا للقول بأن مدة إقامته في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، أما إقامته بالمدينة فهي عشر سنين اتفاقا. وقال البعض إن مدة النزول استغرقت عشرين سنة. وقال آخرون إن المدة خمس وعشرون سنة، لقد نزل كما قال الشعبي أكبر شيوخ أبي حنيفة، في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، والشعبي يجمع في هذا الرأي بين قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة القدر» (القدر آية 1) وقوله: «وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث» (الإسراء آية 106)، وهو فهم سديد، يتضارب مع إخبار الله، بإنزال كتابه في ليلة مباركة.جمع القرآن: كان القرآن الكريم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في صحف مفرقة، كتبها كتاب الوحي، وفي صدور الحفاظ من الصحابة. وأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمعه، لا في مصحف واحد، بل جمعت الصحف المختلفة التي فيها آيات القرآن وسوره. وكتب فيها ما كان في صدور الرجال، وأودعت الصحف الكثيرة التي فيها القرآن عند أبي بكر، تولى جمعه زيد بن ثابت، ثم انتقلت من أبي بكر إلى عمر ثم إلى حفصة بنت عمر، عندما تولى عثمان أخذ الصحف من حفصة، وعهد إلى جمع من الصحابة منهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص. بجمعها في مصحف واحد، ثم كتبت منه نسخ كثيرة وزعت على الأمصار، وأحرق ما يخالفه من الصحف.نزل القرآن بلغة العرب، وأساليبهم في كلامهم، ألفاظه عربية إلا ألفاظا قليلة عرّبت، لأنها أخذت من اللغات الأخرى، لكن هضمتها العرب وأجرت عليها قوانينها، وأساليبه هي أساليب العرب في كلامها.مضمونه: القرآن كلام الله الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون حجة له على أنه رسول الله، ودستورا للناس يهتدون بهداه، ويتعبدون بتلاوته، وهو المدون بين دفتي المصحف، والمنقول إلينا بالتواتر، كتابة ومشافهة جيلا عن جيل ومحفوظ من أي تغيير أو تبديل مصداقا لقوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجرات آية 9 مدنية). وهو حجة على الخلق أجمعين، ودليل أنه من عند الله أنه معجز. وقد عجز أئمة اللغة العربية عن مباراته وهو متضمن الأحكام الملزمة للبشر، وهي ثلاثة أنواع:1- أحكام اعتقادية تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.2- أحكام خلقية تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلى به من الفضائل وما يتخلى عنه من الرذائل.3- أحكام عملية تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» (الإسراء آية 88 مكية).هذا التنزيل الذي أعطى الله به منزلة الإنسانية، وأخرجها من الظلمات إلى النور، ومن الذل إلى العز، ومن الأمية إلى مدارج العرفان وأعلى معارج الكرامة هو اليوم، يمد الساعي إليه المستفتح لأبوابه بما يطلبه ويرتجيه، فمن أراد تشريعا وجده، ومن ابتغى علما أو قصصا أو عبرا فاز بما يكفيه ويرضيه. لم تر البشرية في قديمها وحديثها كتابا تلتقي عليه أفهام الخاصة والعامة ويرتوي منه كل امرئ بما يناسبه ويطلبه ويطيقه مثل هذا الكتاب الذي سيظل نور الله في الدنيا حتى تزول وسيبقى خالدا في الأرض إلى أن تدول.لقد نزل القرآن ليكون هداية ونورا «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم» (المائدة الآيتان 17-18). إنه كلام الله المبين الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين قرآنا عربيا غير ذي عوج معجزا في مختلف الأزمان والعصور وهو كتاب يضم قدرا كافيا من أصول العلوم وقواعد المعارف.
الدعوة لكسب العلم
حامد المهيريبعد الحديث عن نزول القرآن ليلة القدر، وجمعه، ومضمونه، نواصل الحديث عن دعوته لكسب العلم، فالآيات الأولى منه نزولا تمجد العلم "اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم" "العلق آيات 1-5".بدأ نزول القرآن بكلمة "اقرأ"، والقراءة أوسع أبواب العلم ثم ذكر خلق الإنسان فبدأه من علق وهو دم مجمد، وهذا لفْت للبصائر إلى أطوار الإنسان عند التكوين لكى نتأمل ونبحث فنعرف ونعلم، ثم انتقل إلى ذكر التعليم فى تصريح وأن الله القادر هو الذى علم الإنسان ما يجهل، نتأمل فى القرآن فإذا بالعلم متناثر فى كل آياته سواء ما تعلق منه بالحياة الإنسانية وهى أرقى أنواع الحياة فى الأرض "فلينظر الإنسان مم خُلق. خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب. إنه على رجعه لقادر" "الطارق آيات 5-8"، أو ما تعلق بالآفاق العليا كقوله "والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون" "يس آيات 38-40".ولكنه ليس من المعقول ولا من المقبول أن يستطرد القرآن فى حديث العلم فيذكر سائر التفاصيل فى العلوم والسنن الكونية والظواهر الطبيعية وإلا كان ذلك تعطيلا للعقل البشرى عن البحث والتأمل والاستنباط أن الإسلام قائم على تحريك هذا العقل وتمجيده إذا بحث واستقام تفكيره. ومن هنا جاءت آيات الدعوة إلى النظر فى ملكوت السماوات والأرض "قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" "العنكبوت آية 20" "أوَلم ينظروا فى ملكوت السماوات والأرض" "الأعراف آية 185" "أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها" "الحج آية 46" "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج" "ق آية 6"، وكثير من الآيات الكونية والعلمية فى القرآن تميل إلى التعميم وترك التفصيل والتحديد لينشط العقل بعد إرشاده وتوجيهه فيستخرج ويستنبط.فالقرآن مثلا يقول "أأنتم أشد خلقا أم السماء. بناها رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها" "النازعات آيات 27-32" ولكن كيف؟ ولمَ؟ ترك التفاصيل لمجهود العقل. والقرآن يقول "وأرسلنا الرياح لواقح" "الحجر 22" ولكن كيف ترك هذا لمجهود العقل "سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" "فصلت آية 53".وموقف القرآن من العلم يفسره القرآن نفسه، فإنه فى موطن يخبرنا بأن ما بلغناه من العلم ضئيل قليل "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" "الإسراء آية 85"، ثم يرشدنا فى موطن ثان إلى أن الله هو المعلم الأكبر فتجب الاستعانة به "وعلمك ما لم تكن تعلم" "النساء آية 113" ثم يحرض على طلب المزيد من العلم "وقل رب زدنى علما" "طه آية 114".. القرآن يعنى بالثقافة العقلية، فيحدثنا عن التشريع والتاريخ ومشاهد الطبيعة وما وراءها ويستثير العقل للنظر والتأمل والاستنباط والإدراك والاعتبار وينوه بمكانة العقل المؤدى إلى دقة الفهم وصدق العلم فقال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" "العنكبوت آية 43".ويعنى بالثقافة النفسية فيحدثنا عن القلوب والمشاعر، وعن الأهواء والشهوات، وعن دقائق النفوس وأغوارها وطرق تهذيبها فيقول "وفى أنفسكم أفلا تبصرون" "الذاريات آية 21" "ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها" "الشمس آيات 7-10" ويحدثنا عن الثقافة المادية التى تيسر مطالب الحياة ومصالح البشر فيذكر ما أنعم الله به على الإنسان من نعم خافية وبادية "وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" "لقمان آية 20"، ويدعو الإنسان إلى تحصيل هذه المنافع عن طريق أسبابها ووسائلها "ولا تنس نصيبك من الدنيا" "القصص آية 77".وتكلم عن العقائد والعبادات والمعاملات والأفراد والأسرة والمجتمع والأخلاق والسلوك، ومختلف العلاقات بين الناس فضرب أمثلة عن كل ذلك للتذكير "ولقد ضربنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون" "الزمر الآيتان 27-28".القرآن سبب نشأة العلوم الإسلامية والعربية فالمسلمون وضعوا النحو ليتجنبوا بالتزام قواعده اللحن فى القرآن وعنوا بالتفسير الذى نشأ ليفصل وجوه الإعجاز والتشريع فى القرآن. واهتموا بالحديث الذى صار علما ليحفظ سنة الرسول، صلى الله عليه وسلم، التى تعتبر مذكرة تفسيرية للقرآن واعتمدوا الفقه الذى نشأن ليستمد الأحكام من القرآن.ولو تعمقنا فى البحث لوجدنا أن مجموعة المعارف التى تتكون منها ثقافة الأمة كان الينبوع الذى تفجرت عنه مباشرة أو بطريق غير مباشر هو القرآن الذى حث على المعرفة وحرض على طلب العلم والتوسع فيه إلى أبعد مدى مستطاع. فالفرقان يذكرنا بخلونا من المعرفة منذ ولادتنا ويرشدنا إلى الوسائل التى ينبغى استخدامها فى التعلم "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" "النحل آية 78".لئن كان القرآن نزل بين العرب وبلغة العرب فهو دعوة موجهة للإنسانية عامة لا فرق بين عربى وأعجمي، وأمة وأمة، وجنس وجنس، فالله تعالى وضح ذلك لرسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا" "سبأ آية 28 مكية" "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" "الأنبياء آية 107 مكية" "وما أرسلناك عليهم وكيلا" "الإسراء آية 54 مكية".وحسب ما جاء فى كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية قال النبى الرسول صلى الله عليه وسلم "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد" وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهو يعبد فى كل وقت بما أمر به فى ذلك الوقت وذلك هو دين الإسلام فى ذلك الوقت، وتنوع الشرائع فى الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة.فكما أن دين الإسلام الذى بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد ومما نسخ أن الله شرع لبنى إسرائيل السبت ثم نسخ وشرع لنا الجمعة، وحرم الاجتماع يوم السبت فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلما، ومن لم يدخل فى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النسخ لم يكن مسلما، ولم يشرع لأى نبى أن يعبد غير الله "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه" "الشورى آية 13 مكية" فأمر الرسل، أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه. "
الإعجاز القرآنى وليلة القدر
حامد المهيريتحدثت عن نزول القرآن ليلة القدر، ودعوته لكسب العلم، ومن هنا فهو معجزة "أم يقولون تقوَّله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين" "الطور آيتان 33-34". هذا تحد، ورغم التنازل عن التحدى "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون" "هود آيتان 13-14".فلما عجزوا وقع المزيد من التنازل "وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا- ولن تفعلوا- فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" "البقرة آيتان 23-24"، حتى إذا عجزوا عن معارضة سورة واحدة من سوره- وهم أمة الفصاحة والبلاغة- جلجل صوته فى الآفاق وتحدى أمم العالم قائلا فى ثقة ويقين "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" "الإسراء آية 88".ليلة القدر: هل تمت مرة واحدة فى عمر الإنسانية ولا تعاد أو هى متجددة كل سنة إلى أن يرث الله الأرض؟ روى عن أبى ذر قال يا رسول الله "أتكون ليلة القدر مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: بل هى باقية". فالنص يؤكد على تجددها كل سنة. فهل هى باقية وفى ليلة معينة تتكرر بعينها أو هى متنقلة تظهر كل مرة فى ليلة يختارها الله ويظهرها حسبما سبق فى علمه؟.فى الحديث الصحيح أنها فى ليلة معينة من السنة تتكرر فى مثلها كل سنة، والصحيح أنها فى شهر رمضان، فحسب البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال "اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان فخرج صبيحة عشرين فخطبنا فقال: إنى أُريت ليلة القدر ثم أنسيتها أو نسيتها فالتمسوها فى العشر الأواخر فى الوتر، إنى رأيت أنى أسجد فى ماء وطين فمن كان اعتكف معى فليرجع فرجعنا وما نرى فى السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فى الماء والطين حتى رأيت أثر الطين على وجهه.هذا الحديث قربنا من معرفة ليلة القدر:أولا: الرواية فيها نسيان فوضح البخارى عن رواية عبادة بن الصامت قال: خرج النبى صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة. فالنص يوافق نص أبى سعيد من أن الرسول عرفها ثم نسيها وسبب النسيان الخصومة التى وقعت بين صحابيين فى مسجده.ثانيا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام فى حديث أبى سعيد يرشدنا إلى أنه علينا أن نجتهد فى العشر الأواخر من شهر رمضان خاصة الوتر أى ليلة الواحد والعشرين، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع والعشرين، والاجتهاد فى أمر العبادة فى العشر الأواخر من رمضان هى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخارى عن عائشة "كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله".هذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتفرغ للعبادة فى هذه الأيام العشرة الأواخر من رمضان، فكان لا يقرب نساءه ويقضى الليل قائما مصليا ذاكرا تاليا لكتاب الله، ويشرك أزواجه وأقاربه فى إحياء الليل فيوقظهم للعبادة لما فى هذه العشر الأواخر من بركات ومنها ليلة القدر.ثالثا: الحديث يرجح ليلة الحادى والعشرين من رمضان لقوله إن النبى صلى الله عليه وسلم بقيت له من آثاره رؤياه ولا يرى إلا حقا أنه سجد فى ماء وطين، وفعلا سجد يوم الحادى والعشرين فى صلاة الصبح فى ماء وطين، هذه الرؤيا النبوية طابقتها رؤيا جمع كبير من صحابته، فالبخارى عن ابن عمر ذكر أن رجالا من أصحاب الرسول "أروا ليلة القدر فى المنام فى السبع الأواخر" فقال الرسول عليه الصلاة والسلام "أرى رؤياكم قد تواطأت فى السبع الأواخر فمن كان متحريا فليتحرها فى السبع الأواخر" وفى حديث عبادة قال الرسول "وعسى أن يكون خيرا لكم".لقد أنسى الله نبيه تعيين ليلة القدر بسبب الخصومة، وهذا ما يحذرنا أولا، من الخصام ومن رفع الأصوات فى المساجد، وما ينبهنا ثانيا، إلى أن عمل الإنسان لما كان منسوبا إلى الجماعة لا يقصر نفعه ولا ضرره على ذاته بل يتعداه إلى غيره. ثالثا: هذه التربية الصالحة عندما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "وعسى أن يكون خيرا لكم" لأن الإسلام جاء ليربى شعبا ويكوّن أمة صالحة للقيادة فى الدنيا وكانت العبادة سبيلا إلى تهذيب نفوسهم وتقوية إرادتهم ودوام صلتهم بالله، وأن الثواب الذى يتحدث عنه القرآن هو الثواب الذى أعده الله للمؤمنين الصالحين فى دار الجزاء هو أمر يشحذ العزائم ويفتح باب التفاؤل ويعطى للنفس إشراقة الأمل الفاتح.ولو تعينت ليلة القدر بثوابها الذى يفوق عبادة 83 سنة، لاتكل الناس ثم تواكلوا، لو علموا ليلة القدر لأسرعوا لها فعمروها بالعبادة والذكر واكتفوا، ولو فعلوا ذلك ولم تروضهم الطاعات المتجددة ولم تصحبهم مراقبة الله الدائمة لو اعتمدوا على ليلة القدر خاصة لم يكونوا صالحين للمهمات التى أنيطت بهم من قيادة العالم لما فيه خيره، ومن قيام على نشر الدين الصحيح ودعوة الناس إليه. فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعسى أن يكون خيرا لنا".فالخلاصة أننا نتوقع أن ليلة القدر هى إحدى الليالى العشر الأواخر من شهر رمضان وعلينا أن نجتهد فى العبادة فيها تأسيا برسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنا لا نستطيع أن نقطع جزما بأنها فى العشر الأواخر، فالعبد الصالح هو الذى تصحبه خشية الله وامتثال أوامره واجتناب منهياته كل أيام السنة وفى كل عمره وهو الذى يقطع أنه قد صادف ليلة القدر.هذه الليلة التى أنزل فيها القرآن الذى رد بحجج دامغة على الجاحدين ورفع شأن الوقت الذى أنزل فيه ونزول الملائكة فى ليلة إنزاله وتفضيل هذه الليلة، ليلة القدر التى توافق ليلة إنزاله، والحكمة من اختفاء تعيين ليلة القدر هى من الأشياء التى حركت سواكن الجامدين.فالقرآن كتاب علم تفرعت عنه سائر العلوم؛ بالإضافة إلى أنه كتاب عبادة فهو تشريع وتاريخ، وفلك، ورياضيات، وحياة، وكل علم تجد القرآن يطفئ عطيشه ويشبع جوعه، ويخرجه من الحيرة إلى الحقيقة.
No comments:
Post a Comment