الاعتكاف والصحة الإيمانية
*
*
الاعتكاف دورة تدريبية سنوية مكثفة، جاءت بها السنة النبوية، لها أثر عجيب، وفعل في النفس غريب. الاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل، وقيل: قطع العلائق عن الخلائق، لعبادة الخالق. وهو فرصة لعلاج فتور النفس وضعف الوازع الإيماني فيها، وزيادة التربية الإيمانية وتهذيب النفس، وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله، والتفرغ لعبادة الله، بالتفكر، والدعاء، والذكر، والاستغفار، وقراءة القرآن، والصلاة، والتوبة، والانكسار. فهنيئًا للمعتكفين فقد أقبلت أيام اللقاء، أيام الصفاء، أيام الحنين، أقبلت أيام الاعتكاف، فحنت لها قلوب المحبين. كم من معتكف هذه الأيام تقول زوجه: واحزناه، وهو يقول: واطرباه، فقد أتاه ما أشغله وألهاه. خلوات، ودعوات، ودمعات، وآيات بينات، وذكر ومناجاة، وركعات وسجدات. وفي الاعتكاف حماية للقلب من فضول الكلام وكثرة المخالطة، وحماية من كثرة النوم والطعام، ومن تأمل في نفسه علم أن كثرة الخلطة والكلام، وكثرة النوم والطعام، لها أضرار جسام، وأن التخلص من فضولها يسهم في دفع القلب نحو الراحة والاستقرار النفسي، حيث يجتمع القلب، وتسمو الروح، وتصفو النفس، ويخلو البال لمناجاة الحبيب لمحبوبه، وخضوع العبد بين يدي معبوده، فلا تسمع إلا همسات المحبين، وأزيز الخاشعين، وأنين التائبين، وآهات المذنبين.. الاعتكاف هو: المنهل العذب للصالحين، والمورد الزلال للمتقين. فالمعتكف ترك الفراش الوثير، وترك الزوج والأولاد، وترك الأشغال والأموال، كل ذلك من أجل الله! فلله ما أعظم إخلاص المعتكفين الصادقين! فهم في خلوات، ونوافل وخيرات، ولله ما أطيب قراءة المعتكفين للقرآن! تـدبر وتلاوة، ولذة وحلاوة! ولله ما ألذ سجود المعتكفين وليلهم، دعاء وحنين، وبكاء وأنين، يقول أبو سليمان: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"، يا سعادة المعتكفين بلحظات السحر، إذا انصرف الناس بعد صلاة القيام لبيوتهم، وهم في بيوت الله جالسون، يناجون ربهم هيبةً له وإجلالاً، يستغفرون استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر الله له ويرحمه، ولسان حاله يقول: إلهي انصرف الناس إلى خدورهم، فخلا كل خليل بخليله يناجيه، وبقيت أنا أناجيك، وأنا أحبك وأحب من يحبك. فأنت عندي كروحي.. بل أنت منها أحب.. حسبي من الحب أني.. لمــا تحب أحب لعلك - أخي- تتمنى أن تكون من المعتكفين! فيا من يستعظم أحوال القوم! تَنَقَّلْ في المراقي تَصِلْ، ويحك لا تحقر نفسك جاهدها، فرّغ قلبك من الشواغل، وكن من المعتكفين، لعلك تجد لذة الأنس برب العالمين، لعلك تُلقي همومًا وغمومًا أثقلت النفس، لعلك تغسل الران الذي اجتمع على القلب، لعلك تُدرك ليلة القدر، لعلك تفوز بالعتق، لعلك تكون من المقبولين، لعل الرحيم الرحمن ينظر إليك فيرحمك رحمة لا تشقى بعدها أبدًا، هيا استعن بالله، وتوكل عليه، واملأ القلب باليقين، واستشعر رقابة الله، وتذكر فجأة الموت، واعلم أن الشيطان سيجلب عليك بخيله ورجله، وسيرسم لك كثرة الأشغال، وسيضع العراقيل والعقبات، ولكن إن هي إلا لحظات، فتدلف بنية صادقة، وعزيمة ثابتة من عتبة المسجد، وستعلم حينها أنما هي أوهام وتخيلات، وستشعر بلذة حبيبة، وسعادة غريبة، وأنه ليس صعبًا تغيير النفس وقطعها عن كل ما اعتادته لمن أخلص نيته، وصدق في عزيمته.
No comments:
Post a Comment